قراءة نقدية لرواية (متاهة الأفعى) للكاتب: المعز عبد المتعال سر الختم
صدرت رواية (متاهة الأفعى)، في عام 2018 عن دار أفاتار للنشر بالقاهرة، تجسيداً لواقع إجتماعي ونفسي يمر به البطل في متاهة يتلوّن فيها كالأفعى في تخبط نفسي مريب وتأنيب ضمير يؤدي لنشوء صراع نفسي يقود إلى إضطراب في شخصية البطل؛ أخذه إلى (متاهة الأفعى).
عكست الرواية مدى تيه بطل الرواية(أمجد) وإلى أي حد تمكّن الشيطان منه، فهو صراع الشر مع الشر، بحيث يدخل كل مرة في متاهة أضيق من سابقتها؛ فكلما ظهرت فرصة توبة يركلها بقدمه ويحطّمها، كما تحطّمت أحلامه الرياضية مع ركلة جزاء فشل في تسديدها، فينصاع لأمر الأفعى السامة التي ترفض إلا أن تمضي في طريق الشر؛ أفعى تبث سمومها أينما حلّت، رافضًا أي فرصة للنجاة أو الرجوع.
كانت هنالك فرص للبطل للنجاة من بحر التيه، وإختيار حياة كريمة مع إخوته بعد وفاة والدته إلا أنّ نفسه الأمارة بالسوء؛ أبت وانصاعت لأوامر الشيطان، وتجديد جلد الأفعى التائهة؛ فتتلوّن جريمته هذه المرة، فيخون إخوته رغم ما وجده منهم من احتواء وحنان، طمعاً في أخ يكون لهم السند والأمان لكنه أبى إلا أن يجرّدهم حتى من الأمان المادي وطمع في حقهم فسرق ميراثهم وهرب إلى مدينة أخرى فكانت فرصته للتوبة للمرة الثانية عندما وجد الإحتواء الأسري بكل كرم، وجده في أسرة (ياسمين)، ضحيته الثانية فأضاعها أيضاً وغرق في بحر الرذيلة مرة أخرى.
كأنّه يعشق متاهات ودهاليز الحرام ومُكرّرًا ذات الخطيئة منجرفاً وراء شهواته المجنونة، وإن كانت هذه المرة تحت وطأة وعد مغلّف بالحب والزواج، إلا أنّه مُضطرب لا يعرف حقيقة إحساسه بها، هل هو حب حقيقي؟ ام هو مجرد شهوة عابرة؟. مقارناً بينها وبين ضحيّته الأولى التي قلبت حياته رأساً على عقب، مع إحساسه بتأنيب الضمير الّذي ظهر بوضوح عندما زار قبر (وفاء) ثُمّ بكائه على قبرها وهو يلوم نفسه كيف قتل إنسانة من أجل شهوة يعيشها للحظات!
أما بحثه عن العمل في محل الزهور ماهو إلا بحث عن وردة من بستان الجمال داخل نفسه، لعلها توقظ فيه لمسة جمالية يبدأ بعدها حياة جديدة.
لكنّه تخلّى عن هذه الفرصة في أول عقبة واجهته؛ كأنّها لم تكن رغبة حقيقية للتوبة بل مزيدًا من الإحباط والإضطراب النفسي الّذي يجعله يتخبّط في قراراته، ذاك الحد الّذي أوصله إلى المستشفى مغيّبًا تمامًا عن الوعي، مما يدل على أنّ البطل كان يعيش تحت ضغط نفسي رهيب؛ يجاهد نفسه الأمارة بالسوء، تائهاً في بحور الندم متلوّناً كالأفاعي، يؤذي كل من يصادف طريقه حتى أقرب الناس إليه.
ربما لم يتطرّق الكاتب لوصف شكل البطل بتفاصيله الدقيقة كمزيدًا من التشويق ومنح القارئ فرصة أن يطلق العنان لخياله، وهذه الطريقة أضافت للعمل الإبداعي بُعداً جماليًا شديد السحر والروعة، وهي طريقة أفضل بكثير من الإغراق في الوصف المُمل، فالمرّة الوحيدة التي وصف فيها الكاتب شكل البطل كانت على لسان البطل نفسه، عندما كان يبحث في أغراض أخته (إنتصار) فوجد صورة تجمع والديه، واصفاً والده في الصورة بعينين ضيقتين وأنف قبيح، موضّحاً الشبه بينهما، وكما تُشير الصورة أيضاً إلى العلاقة الأسرية التي نشأ فيها البطل وبُعد المسافة بين والديه في الصورة؛ إشارة من الكاتب لخلو العلاقة بينهما من الحب والحميمية والانسجام، وهي التي شكّلت بدورها شخصية البطل التي تدل على اضطراب العلاقة بينهما أو أنّهما مصابان بنوع من الخرس الزوجي وانتحار العواطف بينهما؛ فالعلاقة الأسرية المستقرة والتنشئة السليمة والدفء الأسري لهما دور كبير في خلق شخصية سويّة بعيداً عن الإضطرابات النفسية وتعقيداتها، وهذا ما أراد الكاتب توصيله، تاركًا الأمر لذكاء القارئ عند قراءة الرواية.
فنحن أمام شخصية تعاني من الكبت، وسوء الأخلاق، والتفكّك الأسري، الأمر الّذي جعله يغلق كل أبواب التوبة والفرص، فاستمر (أمجد) سابحاً في بحر التيه، رافضًا فكرة التغيير، بل كان التغيير في كل مرة يقوده إلى مزيدٍ من تلوّن الجريمة التي يرتكبها؛ وهنا يكمن الصراع النفسي والاضطراب في شخصية (أمجد)، حين يجد فرص التوبة يبتعد عنها لأنّه مسجون في خوفه من جريمته الأولى التي قادته إلى رحلة التيه ومزيدًا من الجرائم، والسقوط.
هذا التيه ربما يُشكّل دلالة على قوة تأنيب الضمير؛ ف(أمجد) رغم ما فعله، كان ضميره حيّاً في حواره مع نفسه وشيطانه، ومن الملاحظ أنّ الرواية بأكملها تُروى على لسان البطل مما جعل القارئ يشعر بمعاناته مع نفسه وصراعه مع ضميره، فكانت النتيجة هزيمته حتي صار حبيساً داخل صراعة النفسي. فشخصية (أمجد) منذ البداية شخصية عنيدة ومضطربة تظهر في إغتصابه ل(وفاء) وقتلها، ورفضه للدراسة حين وصفها بأنّها بلا جدوى، ساخراً من الأمتحان وطريقة الإستذكار، ومرورًا ببيع ضميره على سوق السيارات.
لا ننسي الواقع الإجتماعي للأنثى في هذه الرواية التي صورّت حالة الأنثى في المجتمع وعجزها وخوفها من الزواج واحتمالات الطلاق وتكبيلها بقوانين تجعلها مسلوبة الإرادة وتحرمها من التمتّع باستقلالها الفكري والمادي، يظهر ذلك جليّاً في حالة أخته (أحلام) التي تضيع احلامها كلها بمجرد تفكير زوجها (مدثّر) في الطلاق وحالة الرعب من الطلاق ومن المجتمع ونظرته لها، كل هذا لأنّها مقيّدة لا تملك إرادتها، وبالمقابل كانت هزيمة الأنثى في حالة (إنتصار) المهزومة والسجينة داخل حب قديم اختصرها الكاتب في عبارات على لسان أنثى تمثّل حالتها في المجتمع السوداني:
“أنا أنثى يا (أمجد)، يطالبني المجتمع أن أكون خادمة في البيت، وأن أكون مثقّفة، ومتعلّمة وعلى درجة من الوعي، وأن أكون شريفة وسمعتي جيّدة، وأن لا أقع في الحب؛ لأنّه إثم وأتزوّج بلا علاقة حب وأن أستمرّ في زواجي؛ لأنّ الطلاق كارثة، كل هذه المطالب لابدّ أن تتحقّق في سن معينة، كيف ذلك؟!”
(متاهة الافعي) جسّد فيها المعز عبد المتعال لواقع في المجتمع لم يكن (أمجد) فقط ضحيّته، حتى أخته (أحلام) حين تعيش مع رجل يُفضّل البقاء معها فقط من أجل إبنه دون إعتبار لمشاعرها، ممّا عمّق إشارات الهزيمة العاطفية، والإستسلام لواقع لا تمُلك فيه حق الرفض، أمّا (إنتصار) المهزومة التي يُطالبها اخيها (أمجد)، بفحص عذريتها، كأنّ قيمة الأنثى تكمن في عذرية يُمكن أن تُفقد دون خطيئة حتى يطالبها أقرب الناس إليها للخضوع لفحص لمجرد أنّها مارست حقّها العاطفي وأحبّت رجلاً كانت تتمنّاه زوجًا لها، ومن يطالبها بذلك؟ (أمجد) الذي إغتصب، وقتل فتاة دون ذنب، مما يعكس إنفصام شخصية الرجل الشرقي!
عكست الرواية شخصية أنثى مثل (ياسمين) كانت تحلم بحياة كريمة مع أفعى يبث سمومه فيها كل ليلة بإسم الحب فكانت النتيجة تركها لمصير مجهول مع جنين في أحشائها.
أمّا (أنجيلينا) السيّدة التي ركلتها الحروب من جنوب السودان إلى واقع الشمال، دفعها لبيع الخمور، لكنّها تتميّز باعتزاز وكرامة، تبيع الخمر لتحافظ على كرامتها، وهذا ما صورّه الكاتب في حوارها مع البطل:
“كانت كريمة في كل شئ إلا جسدها، قلت لها ذات نهارٍ قائظ الشهوات:
– تبيعين الخمر وتحرّمين الجنس، فما جدوى الخمر؟.
قالت باعتزاز:
أبيع الخمر كي أعيش بكرامة والكرامة هي حفظ الجسد وعدم بيعه.
قلت لها، وأنا أُمعن النظر لفخذها الأبنوسي رافضًا المبدأ:
– لن تبيعيه، ستمنحيه لي؛ فأنا أيضًا أكره البيع، ولا طاقة لي على الشراء.
قالت وهي تضحك:
– بالأمس لم تدفع ثمن الخمر، واليوم تطالبني بجسدي.
– ما ديانتك؟
– ديانتي هي كرامتي.
– ماذا تعبدين؟
– الأبقار.
– ما رأيك بثور هائج مثلي؟.
ضحكت كثيرًا، وقالت:
– لا رغبة لي بثورٍ أو خروف، أنا إنسانة يا (أمجد)، إنسانة، ولست بقرة، أحتاج صديقًا مثلك، صديقًا يؤمن بي كإنسانة، لا كبقرة تحتاج لثور.
كانت “أنجلينا” جريئة، مثقّفة، ومتعلمة، لكنها حزينة، حزنها مُبهم، حزن به عتاب على الحياة، ورغبة غامضة في الإنتصار، وكنت أنا محض ثور هائج، تشابه عليه البقر.”
جسّدت المتاهة إنهزام الأنثى في هذه الرواية، بدًأ من (وفاء)، وإنتهاءً ب(ياسمين)، في كل مشهد كان البطل يؤذي كل من يحبه، ففقدوا جميعًا الإحساس بالأمان.
تمتاز الرواية بمتعة القراءة والتأمّل في الجُمل، والعبارات التي بداخلها، وتشبيه الكاتب لتأنيب الضمير والتخبّط بمتاهة الأفعى، فقد وُفق في إختيار العنوان، وربط الأحداث في تصوير وتجسيد الصراع النفسي للبطل (أمجد)، ومعاقبة ضميره الإنساني بعيدًا عن القضاء.
ترك لنا الكاتب نهاية مفتوحة،
لإعطاء الفرصة للقارئ لإطلاق العنان لخياله، وتخيّل النهاية، فالنهايات المفتوحة مثلما تُسعد القُرّاء، فهي أيضًا تُزعج بعض القُرّاء، لأنّهم يريدون النهايات التي تُختم بمحض إرادة الكاتب، إلا أنّ النهايات المفتوحة، تتمتّع بالتشويق والإثارة، وإشعال جذوة الخيال.
أماني محمد صالح