فجر الخلاص
قبل ثلاثون عام كُنّا نعيش في محبة وسلام، نجوع دون ضيق، ونشبع دون نهم، نأكل مانجده دون إنتقاء، صاج ملتهب، تتصاعد منه نكهة ثاني أكسيد العجين المُر، كسرة معجونة، وكوب ماء، ويقين، كُنّا نعيش ببساطة وحميمية، غرفة واحدة تسعنا بكل دفء الكون، نتناجى بعد المغرب، نصطاد العبق من أفواه النسيم، نجتمع على أصوات الشاي، نعانق جمال الإرتشاف.
كُنّا نتحاور سياسياً، نتفق ونختلف بلطف، نرتاد دور العبادة، كما نرتاد أندية الحي، نقرأ الأشعار، ونستمع لعذب الغناء، ننام على ضجيج الضحك، ونصحو على صباحات الأمان.
كانت الحياة نديّة، العامل والزارع، الراعي والموظّف، جميعهم يجدون مايكفيهم، كان التعليم والعلاج متاح، وكانت الأمسيات شهيّة العبق، بيت جارك بيتك، يشاركك الضيق والإبتسامة، وحلاوة الحياة، كانت الحياة ساطعة، عذبة، نقيّة، وكان النيل جميل الإنحدار.
فجأة باغتنا الأوغاد في ليل مشئوم، أسوأ من كل اللصوص، هاجمونا غدراً ونحن نيام، هاجمونا في جوف ليلٍ بغيض، غزاة عديمي الضمير، أشكالهم غريبة، كأنّهم مسخٌ مشوّه لفصيلة نادرة من الكائنات، ملتحون، يرتدون خوذات عسكرية، مدججّون بالقسوة والكراهية والحقد، أصواتهم جوفاء، صدئة، خواء، وصراخ، وعواء، عُمامات وجلابيب، سبّابات مرفوعة، خِمارات كاذبة، تُهلّل بأصدق عبارات النِفاق، نهمون لكل شئ، شهواتهم دنيئة، يأكلون ولا يشبعون، شرهون حد التخمة، يشربون ولا إرتواء، كائنات غريبة، لا ندري من أين هبطوا علينا!، طفحت جرائمهم برائحة نتنة، مزّقوا حياتنا السياسية والإجتماعية، فجروا في الخصومة، ولغوا في كل حرام، قتلوا، إغتصبوا، سرقوا، شرّدوا، ظلموا بإسم الدين، حوّلوا حياتنا لجحيم، ثم رقصوا على أشلائنا رقصة اللؤم.
ثلاثون عاماً مرّت من نهارات الشقى، والبؤس، والعذاب، ثلاثون عاماً من ليالي السُهد والألم والحسرة، ثلاثون عاماً عشنا فيها مرارات مختلفة المذاق، تُرى كم أمنية تمّ وأدها في رحم الأحلام؟ كم طفل تيتّم في معسكرات النزوح؟ كم أم ثكلى إلتهبت عيناها بالدموع؟، كم رجل بكى وهو يصارع ضيق العوز والفاقة؟ تُرى كم شرف أُنتُِهك؟ كم إمراة طُلّقت؟، كم طفل مجهول النسب بللّت خداه الدموع؟، كم مهاجر ترك دياره وهاجر؟ وكم منهم مات من الأنواء؟ كم مريض تعذّب؟، وكم جائع تلوّى؟، وكم طالب فشل؟.
تُرى كم شهيداً إرتقى؟ وكم مفقود؟.
ثلاثون عاماً أحكم المنافقون قبضتهم علينا، جعلوا الدين مطيّة، كبّلونا بقيود مختلفة، كممّوا أفواهنا، ودمّروا نسيجنا الإجتماعي المتسامح، ثم أشعلوا حروبهم الشعواء ضدنا.
إلى كل الشرفاء من السودانيين في كل بقاع العالم، إلى كل موجوع تأذى من حكم الإنقاذ، إلى كل ثائر حُر، اليوم إنتهت حقبة سوداء من عمرنا، إنطوت ثلاثون عاماً من حكم الإسلام السياسي البغيض.
إنّها الأقدار، تدفعها حتميّة التاريخ، تمضي بنا نحو حلم شديد البهاء، حلماً إنتظرناه طويلاً، حلماً إرتوت به أرضنا بدماء الشهداء، ما أنبل تضحياتهم، وما أعذّب نفوسهم، وما أشرف طينتهم، وما أقسى مرارة فقدهم، كأنّنا نراهم الآن بيننا، يلوّحون من بعيد، ويرسمون إبتسامة طازجة على شفاه الوطن.
المعز عبد المتعال سر الختم
نيو بريتن، الولايات المتحدة الأمريكية.
4 أغسطس، 2019،
يوم التوقيع بالحروف الأولى على الوثيقة الدستورية لإنهاء نظام إنقلاب الإنقاذ الدموي.