أماني الروح
كلام الليل
بقلم- أماني محمد صالح:
كما لو كان مدهوناً بـ “زبدة”.. ما أن تهل عليه البشائر.. إلا ويكون الصباح قد محا “كلام الليل” فأذابه و”ودَّره”. لا من واقع سخونة الشمس، بل لأن اغلبه كان قد قيل كنوع من المجاملة التي لا سند لها من الواقع القائم على بنيان متين ..
“كلام الليل”.. وما أدراك ما كلام الليل.. حديث العواطف المتأججة.. المشاعر الجياشة المنتفضة.. المذاق الحلو لطعم الحياة.. النشوة بعينها.. مسكر الحديث.. منمَّقه..
“كلام الليل” وإن كان جميلاً.. سلساً.. مفتوح الفضاءات.. يرمي إلى رباط شرعي مقدس.. إلا انه لابد له من كابح يلجمه.. ولابد له من سقف.. ومن خطوط حمراء تتكسر عند شواطئها أمواج المشاعر الهادرة..
درج مجتمعنا على تصنيف الحديث الطويل المسترسل للبنات عبر الهاتف، لساعاتٍ قد تتجاوز ما بعد منتصف الليل- حتى وإن كان في غرضٍ شريفٍ نبيل- على أنه سلوكٌ مرفوض، من واقع ما قد يسببه ذلك الفعل من انزلاقات قد تجر نحو الهاوية.. خاصةً لفتيات هذا الجيل، ممن صرن يطلقن لمشاعرهن العنان بلا هوادة، ويرخين آذانهن لسماع “معسول الكلام”، ويرتمين بسهولة ويسر- كما الفراشات- في نارٍ العشق والوله، ويهرولن وراء سراب الخديعة الآتي من قِبله، مستغلاتٍ لخدمات الهاتف المجانية، التي صارت ابوابها مشرعة، طوال ساعات الليل بالمجان، كما لو كان القصد من ورائها، وتوفير محفزات التقارب والمحبة، واتاحة الفرصة لمساحات أوسع من العشق، لشعب يكتوي بنار العوز كل صباح.
يقول علماء النفس، إن الحديث لساعات طويلة في الليل قبل الزواج، يستنفد مخزون المشاعر والأحاسيس، ويجعلها عرضة للاضمحلال، إن لم يكن للفناء بعد الزواج، وهو ما قد يفقد البعض ميزة التواصل والتوادد المطلوبة بين الزوجين، حال قُننت العلاقة برباط شرعي، أما هؤلاء الذين يهدفون من وراء مثل هذا التواصل والاتصال، تقضية الوقت، وامتاع النفس بالهوى والملذات، دون وازعٍ ديني، أو رقابة أسرية، فان الحياء عندهم يكون قد حصل على تذكرة (ون وي one way) ليغادر بها محطته الأولي بلا رجعة.
ظلت القيم السودانية السمحة، مترسخة في المجتمع حتي وقتٍ قريب، في زمن لم يكن مسموح فيه بالسهر لا لكبيرٍ أو صغير بعد أداء صلاة العشاء، لا لتخلفٍ عشناه، ولكن تمسكا بالقيم، وموجهات الدين الحنيف، وهو ما حفظ لنا النقاء والطهارة والعفة ردها من الزمان، فكان الحياء والأدب هما تاج عزة كل فتاة، حتي غُزينا بالتقنية الحديثة، ذات الأثر الفاعل جدا في قيادة الإنسان نحو التطور، فيما تحفر هذه التقنية- في ذات الوقت- خندقا تحت أقدامه، لتجره نحو الهاوية.. وقد سقطنا..
هزتني جداً، قصة تلك الفتاة، التي طلبت مني التطرق لموضوع “كلام ما بعد منتصف الليل”، على الرغم أن أصابع يدي لم تطاوعني على ذلك في البداية، لأنها كانت قد “عقرت” منذ فترة ليست بالقصيرة، عن انجاب مثل هذه المواضيع التي تدمي جراج المجتمع، إلا أن رجاءات تلك المكلومة، وما يمثله واقعها من تجربة فريدة يجب ان تجد حظها من السرد لأجيال اليوم، قادياني لأن استجمع قواي الواهنة، واعتصر ذهني لتجميع افكاري، والملم اشلاء خواطري لرسم صورة واقعية لقصتها..
تلخص قول الفتاة في أنه تم فسخ خطوبتها من ابن خالها.. حتى هنا الموضوع عادي وروتيني.. إلا أن السبب وراء ذلك هو غير العادي والروتيني بالنسبة لكثير من الناس، فيما قد لا يرقي ذلك لأي مستوي من الأهمية عند من يمرون على مثل هذه المواقف مرور الكرام، لا يلقون لها بالاَ ولا يعتبرون منها.. لكنها بالنسبة لي كانت غريبة.. وموحشة..
ترك الخطيب خطيبته، لأنها لم تكن تجيد فن “كلام ما بعد منتصف الليل”.. ولا معسول الحديث.. كانت في نظره “باردة”.. متبلدة المشاعر.. فاترة.. فهي لا تجاريه في ما يسوقه لها من عباراتٍ “ساخنة” بذات الجرأة و”البذاءة” التي يتحدث بها، والتي لا تعترف بأية خطوط حمراء أو حتي صفراء تستدعي “التهدئة” والتحفظ.. معتبراً أن في ذلك التحضُّر كله.. ولما لم يحس بمجاراتها له، آثر ان يلفظها، ويمضي في حال سبيله، باحثاً عن أخرى، تكون أكثر جُرأة وانفتاحا على الحضارة ومواكبة العصر.
انتاب والد الفتاة خليط من المشاعر.. مشاعر امتزجت ما بين الحزن من جهةٍ.. والفرح من جهة أخري.. حزناً على ما آل إليه حال ابن اخته، وسطحية تفكيره.. وفرحا علي تربيته السليمة لأبنته، فكون أنها ليست بوقحة لا يعتبر عيباً بقدر ما أنه محمده، على عكس ما يظهره واقع هذا الزمن، الذي صار “يستعر” من حياء المرأة و أدبها، ويعتبره بروداً عاطفيا، تحاسب به كجريرة، وقد يعتبر البعض هذه القصة نسج خيال.. و ترف اجتماعي.. لكنه واقعنا المرير الذي ندعو الله أن يتغير.
اماني الروح