نقوش علي جدار العزلة /محمد فقير

نقوش علي جدار العزلة

نقوش (1)
(( وإذا بلغ من تعدد الجوانب برجل واحد أن يقول قوم أنه فخر بني الإنسان ، ويقول قوم أنه كلب وحمار ، ويسلكه أناس في زمرة الشيطان ويحسبه أناس ولياً مستجاب الصلاة . ويخيل إلي فريق أنه ساحر وإلي فريق أنه طرفة من الطرف وأسطورة من الأساطير ــ فذلك هو الأفق الواسع ، وتلك هي العظمة الباقية … ومن شهده في زمانه فلا حاجة به أن ينتظر ألف عام ليعلم أنه باق إلي ألف عام . وأنه محتفل به بعد ألف عام ، أو ينبئ الدنيا بامتداد خبره ما بقي لعصره خبر بين العصور )) . عباس محمود العقاد ــ من مقدمة الطبعة الثانية ـ رجعة أبي العلاء .
من كتبوا عن أبي العلاء لا يعدون ، عرباً وعجماً ، ولكنك تستطيع أن تعدد منهم من أجاد في الكتابة عن شيخ المعرة ، ثم تستطيع أن تعيّن أكثرهم إجادة ، وليس مثل العقاد من يجيد إذا كتب عن شخصيات التاريخ ، ولنا في العبقريات مثال ، ولنا في كتابه عن إبن الرومي مثال ، ولنا في كتابه عن أبي نواس مثال ، ولنا في كتابه عن المتنبي مثال ، ولنا في كتابه عن أبي العلاء مثال ، غير كتبه التاريخية الأخري ، والعقاد في رجعة أبي العلاء يقوم بإسترجاع أبا العلاء من قبره ، ويتخيله سائراً بيننا في هذا العصر ، ماذا عساه كان يقول وماذا عساه كان يفعل ، ذلك ــ يا صاحبيّ ــ تعرفانه من الكتاب ، أما الآن فدعونا نشيع أبا العلاء أولاً ، قبل أن يستعيده العقاد ، دعونا نقف علي قبره مع المشيعين ، دعونا نسمع رثاء الشعراء له ، ذاك تلميذه عليّ بن الهمام يقول:
إن كنت لم ترق الدماء زهـادة === فلقد أرقت اليوم من جفني دما
سيرت ذكــراً في البلاد كـأنـه === مسك مسامعها يضمخ أو فمـا
وتـرى الحجيج إذا أرادوا لـيلة === ذكراك أوجب فدية من أحرما
وهو هنا يشير إلي أن أبا العلاء لم يكن يأكل اللحم ، وكان يعترض علي ذبح الحيوان ، وكان بذلك نباتياً.
وذلك هو أبوالفتح الحسن بن عبدالله حصينة يقول :
العلمُ بعدَ أبي الـعـلاء مُـضـيعٌ == والأرضُ خالية ٌالجوانب بلـقـعُ
أودى وقد ملأ الـبـلادَ غـرائبـاً == تسـري كما تسري النجوم الطـّلعُ
ما كنتُ أعلمُ وهو يودَع في الثرى == أنّ الثرى فيه الكـواكـبُ تـودعُ
إلى آخر القصيدة ، وقد جاءت هذه القصيدة تعبيراً عن مشاعر مئات الآلاف من معجبي أبي العلاء ، ممن وقفوا فوق قبره ومن لم يقفوا .. ممن نظموا فيه رثاء ومن لم يفعلوا ، ولكن أبوالعلاء يقول (لا تبكوا عليّ ولاتـبكـّوا) فدعونا ندخل بيت أبي العلاء ، نتلفت ونبحث .. عن بيت شعر (تعَبٌ كـُلّها الحياة فما أعجبُ== إلاّ من راغبٍ في إزدياد) .. سوف نجد في ركن من هذا المحبس التعيس ، كراسة قديمة ، من اللزوميات ، دعونا نبحث عن ما لا يلزم بما يلزم من الصبر والإصرار في الحلقة القادمة.

محمد فقير تورنتو