Take a fresh look at your lifestyle.

أي مستقبل للصوفية؟!

استشرف المثقف السعودي أحمد عدنان في خضم جائحة كورونا التي اجتاحت العالم، أن المستقبل للصوفية، وذلك في مقاله «الإسلام بعد كورونا» المنشور بجريدة «نداء الوطن» اللبنانية.

هذا الاستشراف المستقبلي – أو بحسب تعبيره «التأثير الإسلامي الحتمي»!- الذي سنشهد فيه صعوداً للإسلام الصوفي بعد القضاء على جائحة كورونا، اتكأ فيه على تحليل فرويدي مقحم، وعلى عرض تاريخي خاطئ لصلة النظام الإقليمي العربي

بالمؤسسة الدينية ولمسيرة الإسلام السياسي منذ هزيمة 67، وعلى مقال رضوان السيد «الدين والجوائح وسحر العالم»، المنشور بجريدة «الاتحاد» الظبيانية، الذي قوّله فيه تلميحاً بصعود الإسلام الصوفي. وهذا ما لم يقله رضوان السيد في هذا المقال، لا تلميحاً ولا تمليحاً.

التحليل الفرويدي المقحم على كورونا الوبائية وعلى الصوفية الإسلامية، هو الجرح النرجسي الكوني. يقول أحمد عدنان عن هذا الجرح: «قبل نحو قرن، تحدث فرويد عن الجرح النرجسي الكوني قاصداً الاكتشافات العلمية التي جرحت أو كسرت عزة النفس البشرية، وأولها أن الأرض تدور حول الشمس، وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض، وبالتالي انتفت مركزية الإنسان

وكوكبه في الكون. وثانيها ما اكتشفه داروين، أي الأصل الحيواني للإنسان وعليه انتفت – موضوعياً ونظرياً – سيادة الإنسان على بقية المخلوقات. وليس آخرها، ما فجره فرويد نفسه، أن اللاوعي هو الحاكم لتصرف الإنسان، بدلاً من الوعي الذي ظننا أنه كل شيء».
ولعله من الأفيد علمياً لنا أن ننظر فيما قاله مفكر عربي كبير مستغرق في التحليل النفسي الفرويدي منذ أن كان في الثلاثينات من عمره إلى أن توفاه الله، عن هذا الجرح.

يقول جورج طرابيشي في كتابه «هرطقات: عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية»، الجزء الأول: «في مقال نشره فرويد عام 1917 تحت عنوان (صعوبة أمام التحليل النفسي) تحدث مؤسس علم اللاشعور عن جرح نرجسي فريد من نوعه يصح أن نسميه الجرح النرجسي الكوني. إذ قد نشأ هذا الجرح عن الإذلال الذي تعرضت له كبرياء البشرية وعزة نفسها الكونية ثلاث مرات على التوالي، من جراء تقدم العلم وتوالي كشوفه.

فقد كان أول تلك الجروح التي منيت بها النرجسية الكونية، الجرح الكسمولوجي، وهو ذلك الذي أحدثته نظرية كوبرنيكوس عندما قلبت معادلة الجاذبية الكونية، وبدلت قطب المركزية في النظام الفلكي وقررت الحقيقة المؤلمة بالنسبة إلى عزة نفس البشرية،

وهي: أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض، ثم كان بعد ذلك، الجرح البيولوجي، وهو جرح تسببت فيه نظرية انقلابية ثانية هي نظرية داروين، التي قررت حقيقة جارحة أخرى للنرجسية البشرية الكونية:

فالإنسان الذي طالما افتخر وتباهى بأصله السماوي، وتصور نفسه مخلوقاً من روح الله وعلى صورته ومثاله، وجد ذاته مكرهاً، تحت ضغط البرهان العلمي، على الاعتراف بأن السلالة البيولوجية التي تتحدر منها هي السلالة الحيوانية. أما ثالث الجروح

النرجسية فكان من طبيعة سيكولوجية بالأَوْلى. وقد كان من فعل مؤسس علم نفس الأعماق، فرويد نفسه. فالتحليل النفسي مثّل هو الآخر نظرة انقلابية. فكما أن الأرض لم تعد مع كوبرنيكوس… كذلك فإن النفس لم تعد مع فرويد مركز ذاتها. فتحت سطح الوعي يكمن أوقيانوس اللاشعور. وقرارات الإنسان، الذي طالما تباهى بحيازته ملكة الوعي، كثيراً ما تكون متعينة بالعمق

اللاشعوري أكثر منها بالسطح الشعوري».

شرح جورج طرابيشي لمضمون مقال فرويد تلخيص مقضب ومتحرر كثيراً من النص الأصلي الذي يشرحه. لهذا لا يغني قراءة شرحه عن قراءة النص الأصلي. فهذه الجروح الثلاثة يطلق جورج طرابيشي عليها اسماً عاماً، هو الجرح النرجسي الكوني.

ويسمي الجرح الأول الجرح الكسمولوجي. ويسمي الجرح الثاني الجرح البيولوجي. أما الجرح الثالث فلم يلحق به يا النسبة. وهو الجرح الذي تسبب به التحليل النفسي الذي اخترعه فرويد، وكان فرويد – كما أخبرنا أريك فروم – يلذ له بالتأكيد على ذلك. إني أتساءل: ماذا يضير لو أن جورج طرابيشي كان قد سماه جرح التحليل النفسي، ليتلاءم من حيث الشكل مع نسق التسميتين السابقتين، ويسهل استخدامه.

اللبس والتشويش هو في الاسم العام. فهل الجرح الكوني نسبة إلى الكون أم هو نسبة إلى علم الكون، مثلما هو الاسم الأول المنسوب إلى الكسمولوجيا، أي علم الكون؟

فرويد نسب الجرح الأول إلى علم الكسمولوجيا. وسماه الإذلال الكسمولوجي. ونسب الجرح الثاني إلى علم البايولوجيا، وسماه الإذلال البيولوجي. ورأى أن الجرح الثالث له صدى أكبر من الجرح الأول والجرح الثاني لكونه سيكولوجياً! وتحدث في شرح طويل عما فعله تحليله النفسي بالإنسان.

في الإذلال الثاني، الإذلال البيولوجي بلغة فرويد والجرح البيولوجي بلغة طرابيشي، استحضر جورج طرابيشي التصور المسيحي لخلق الإنسان، بينما اكتفى فرويد بإشارة عامة، هي أن الإنسان تبجح بأصول ربانية أعانته على قطع كل روابط الصلة بينه وبين عالم الحيوان.
فكما نرى، فإن شرح جورج طرابيشي هو الذي جعل أحمد عدنان يجمل الجروح الثلاثة في اسم واحد، وهو الجرح النرجسي الكوني. وهذا الاسم لجورج طرابيشي وليس لفرويد. ففرويد لم يستخدم هذا الاسم أو هذه التسمية البتة في مقاله (صعوبة أمام التحليل النفسي). فالذي تحدث عن الجرح النرجسي الكوني هو جورج طرابيشي، وليس فرويد كما وهم أحمد عدنان في مفتتح مقاله الذي قاله متعالماً: «قبل نحو قرن، تحدث فرويد عن الجرح النرجسي الكوني». فالذي تحدث فيه فرويد تحدث فيه في مقال واحد، ذكر جورج طرابيشي اسمه، وذكر تاريخ كتابته.

الجروح في مقال فرويد وفي شرح جورج طرابيشي لمضمون هذا المقال، هي جروح ثلاثة، إلا أن أحمد عدنان أوحى للقارئ في جملته هذه: «وليس آخرها، ما فجره فرويد نفسه»، بأن جروحاً أو – على الأقل – جرحاً نرجسياً تلا جرح التحليل النفسي في الحدوث.

جورج طرابيشي استغرق في التحليل النفسي الفرويدي وتفتق ذهنه عن جرح نرجسي رابع، سماه الجرح الأنثروبولوجي الذي يحلل الحالة العربية ويفسرها وفقه، والذي يؤرخ لبدايته مع حملة نابليون على مصر، فأضافه إلى جروح فرويد النرجسية الثلاثة.

إن جورج طرابيشي وهو يسوغ – نظرياً ومنهجياً – لإضافة جرح رابع لجروح فرويد النرجسية الثلاثة، أوضح في شرح تالٍ أن «صاحب نظرية الجرح النرجسي الكوني… كان ابناً نموذجياً للحضارة الغربية، وبصفته هذه افترض بصورة تلقائية، بل لا شعورية، أن الإنسان الذي أنزلت به ثورة العلم الحديث ذلك الجرح المثلث الطبقات هو الإنسان في مطلقيته… وما كان ليدور في خلده أن يكون أكثر

عيانية وتاريخية، وأن يحدد بأن الإنسان المعني بذلك الجرح هو بالضرورة وحصراً الإنسان الغربي الذي كان يتهيأ بين جملة أشياء أخرى، لغزو العالم ولتأسيس نفسه إنساناً كونياً. وما غاب عن شعور فرويد أيضاً، أن الإنسان الغربي، الذي اكتشف أن الأرض

ليست مركز الكون، سرعان ما عوض هذا الإذلال النرجسي بأن جعل من ذاته مركز الأرض. أما الإنسان غير الغربي بالمقابل فكان كوبرنيكه بالأحرى هو الغرب عينه. فلقد اكتشف نفسه متأخراً في مرآة الغرب المتقدم.

وفي الحالة العربية، فإن هذا الجرح الأنثروبولوجي كان مضاعفاً، فأمم أخرى وثقافات أخرى ما زاد الأمر بالنسبة إليها عن أن تكتشف أن الغرب قد تقدم فيما ظلت هي تراوح مكانها. أما في الحالة العربية، فقد اقترن السؤال: لماذا تقدم الغرب؟ بآخر لا يقبل عنه انفصالاً: لماذا تأخرنا نحن العرب المسلمين؟».

قد تكونون الآن أدركتم ما الجرح النرجسي الذي عناه أحمد عدنان ولم يسمه في جملته السابقة: «وليس آخرها، ما فجره فرويد نفسه». إنه الجرح النرجسي الرابع، الجرح الأنثروبولوجي الذي أضافه جورج طرابيشي إلى جروح فرويد الثلاثة. وأدركتم أيضاً لماذا

عمّى أحمد عدنان على اسمه. فهو قد عمّى على اسمه لكي لا يشي اسمه بالمصدر الوسيط الذي اقتبس منه فهمه للجرح النرجسي عند فرويد. ذلك لأن الجرح الأنثروبولوجي عبارة وأداة تحليل سيكيولوجية خاصة بجورج طرابيشي في تفسيره للنهضة العربية وتعثرها، وهو مشهور بها عند قراء الأدبيات الفكرية من جيل أحمد عدنان الذين ينتمون إلى أطياف مختلفة.

كان يجمل بأحمد عدنان أن يشير إلى النص الذي اقتبس منه فهمه للجرح النرجسي، وبخاصة أنه نص عزيز على جورج طرابيشي، فهو قد قاله في صدر مقاليه: «عصر النهضة والجرح النرجسي: نسوية قاسم أمين وآلية التماهي مع المعتدي»،

و«الانفتاح والانغلاق في الثقافة العربية الإسلامية»، المنشورين في كتابه «من النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة». وقاله في صدر مقاله «الذات العربية وجرحها النرجسي»، المنشور في كتابه المشار إلى اسمه أعلاه.

ومما يستحق أن يذكر في هذا السياق، ملحوظة صغيرة؛ وهي أن جورج طرابيشي في مقاله عن نسوية قاسم أمين، كان الاسم العام للجرح النرجسي الذي استعمله، هو: الجرح الميتافيزيقي، ثم عدل عن هذه التسمية في مقاليه الآخرين، فسماه فيهما الجرح النرجسي الكوني.

نعود إلى شرح جورج طرابيشي الأخير.

ملخص هذا الشرح، أن جروح فرويد النرجسية الثلاثة لا تنطبق على العالم غير الغربي، ومن هذا العالم غير الغربي، العالم العربي. وهذا ما استحثه أن يستل من جروح فرويد النرجسية جرحاً نرجسياً رابعاً، هو الجرح الأنثروبولوجي.

أحمد عدنان كما أوضحت تعرّف إلى نظرية الجرح النرجسي الفرويدية بواسطة شرح جورج طرابيشي لها، وشارحها هذا قرر أنها خاصة بالعالم الغربي، وليس بالإمكان تعميمها على بقية العالم. فهل هذا يعني أن أحمد عدنان أكثر فرويدية من جورج طرابيشي؟! وللحديث بقية.

 

كاتب وصحافي سعودي
شاركها على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.